طوفان الأقصى- تحولات في الاعتراف بدولة فلسطينية أم تدوير للزوايا؟

المؤلف: محمُود الرنتيسي11.17.2025
طوفان الأقصى- تحولات في الاعتراف بدولة فلسطينية أم تدوير للزوايا؟

منذ توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993، والتي أسست السلطة الفلسطينية كهيئة حكم ذاتي مؤقتة، امتنعت دول غربية عديدة، وعلى رأسها الولايات المتحدة وكندا والعديد من دول الاتحاد الأوروبي، عن الاعتراف الكامل بدولة فلسطينية مستقلة. وعلى الرغم من إعلان هذه الدول دعمها لحل الدولتين كإطار عام لتسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إلا أنها ظلت تشدد على أن قيام الدولة الفلسطينية لا يمكن أن يتحقق إلا عبر مفاوضات مباشرة بين حكومة الاحتلال الإسرائيلي والسلطة الفلسطينية. ونتيجة لذلك، تركت هذه الدول دولة الاحتلال الإسرائيلي تمارس سياساتها التوسعية، وتقوض بشكل مستمر أي أمل حقيقي في إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة.

وعلى الرغم من اعتراف 138 دولة بفلسطين في الأمم المتحدة، إلا أن هذا الاعتراف لم يترجم إلى دعم ملموس وفعال لقيام دولة فلسطينية مستقلة على أرض الواقع، حتى في إطار حل الدولتين الذي يحظى بدعم دولي واسع. واستمر هذا الحل في التلاشي التدريجي نتيجة لسياسات الاحتلال الإسرائيلي والدعم الذي يتلقاه من حلفائه. بالإضافة إلى ذلك، نجح الاحتلال في تطبيع وتطوير علاقاته مع عدد كبير من هذه الدول، مما قلل من الضغط الدولي عليه لتقديم تنازلات للفلسطينيين.

لقد نجحت معركة "طوفان الأقصى" الأخيرة في إعادة القضية الفلسطينية، بما في ذلك ملف الدولة الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني، إلى صدارة الأجندة الدولية وبقوة غير مسبوقة. وهذا يستدعي إعادة نظر شاملة من جميع الأطراف المعنية في السياسات التي كانت تتجاهل حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة.

وفي تطور لافت، كشف تقرير لموقع أكسيوس الأميركي في نهاية يناير/كانون الثاني 2024 أن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن قد أصدر تعليمات إلى كبار المسؤولين في وزارة الخارجية الأميركية لتقديم خيارات للاعتراف الأميركي أو الدولي بالدولة الفلسطينية، بالإضافة إلى تقديم توصيات مفصلة بشأن الشكل الذي يمكن أن تتخذه "الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح". وقد جاء هذا الخبر في ظل بوادر تحول محتمل في تفكير إدارة الرئيس بايدن بشأن الاعتراف المحتمل بدولة فلسطينية.

ومما زاد من أهمية هذا التطور، التصريح الذي أدلى به وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون، والذي أكد فيه أن لندن تدرس بجدية الاعتراف بالدولة الفلسطينية، مشددًا على ضرورة إحراز تقدم ملموس لا رجعة فيه نحو حل الدولتين. وأضاف أن بريطانيا تدرس مع حلفائها مسألة الاعتراف بالدولة الفلسطينية، بما في ذلك في الأمم المتحدة.

تثير هذه التصريحات تساؤلات عميقة حول الدوافع الحقيقية الكامنة وراءها، وما إذا كانت تعكس تحولًا حقيقيًا في السياسة الأميركية والبريطانية تجاه الدولة الفلسطينية. كما تثير تساؤلات حول الملفات والقضايا المرتبطة بهذا الخطاب في هذا التوقيت الحساس.

قد يكون الطرح الأميركي مجرد استمرار للسياسات السابقة، ولكنه يأتي في قالب جديد، تمامًا كما كانت تفعل كل إدارة أميركية متعاقبة، من كلينتون إلى بوش إلى أوباما وصولًا إلى بايدن.

يشير التحليل الأولي إلى أن هذه الأطراف، وخاصة الولايات المتحدة، التي التزمت على مدى أكثر من ثلاثة عقود بسياسة تهدف إلى تحقيق قيام دولة فلسطينية عبر المفاوضات بين حكومة الاحتلال الإسرائيلي والسلطة الفلسطينية، بدأت تدرس بجدية إمكانية الاعتراف بالدولة الفلسطينية. وبالطبع، فإن هذا الاعتراف سيكون مشروطًا بما يتماشى مع مصالحها، وكما يقولون بصراحة، فإن وجود شكل من أشكال الكيان السياسي للفلسطينيين يخدم أمن إسرائيل بالدرجة الأولى.

بغض النظر عن الدوافع الأميركية ومدى جديتها، فإن مجرد طرح مثل هذه الأفكار يعكس التأثير الكبير الذي أحدثته عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر 2023، والتي نجحت من خلالها المقاومة الفلسطينية في وضع حد للمشاريع التصفوية التي كان يقوم بها الاحتلال وحلفاؤه، والذين كانوا يسعون إلى تمرير مشاريع إقليمية ودولية تتجاهل حقوق الشعب الفلسطيني.

إن هذا التفكير لم يأتِ نتيجة لرؤية أميركية ذاتية لتحقيق الاستقرار، بل على العكس تمامًا، فقد شهدت السنوات الماضية تصاعدًا في وتيرة التدهور وعدم الاستقرار.

لذلك، يمكن القول إن معركة "طوفان الأقصى" قد أرست واقعًا جديدًا، ووضعت مسار قيام دولة فلسطينية في معادلة جديدة بمدخلات وقواعد مختلفة، مما يستلزم التعامل معها بسياسات جديدة ومعدلة.

ويتفق مع هذا الطرح السفير الأميركي السابق جيمس جيفري، الذي يرى أن الحرب في غزة تمثل حدثًا كبيرًا يجبر الولايات المتحدة وغيرها على التفكير في حلول مبتكرة وغير تقليدية. ومع ذلك، يرى جيفري أنه لتحقيق المزيد من التقدم، يجب نقل هذه النقاشات من دوائر وزارة الخارجية الأميركية إلى دوائر أخرى أكثر تأثيرًا، مثل مجلس الأمن القومي الأميركي.

قد يكون الطرح الأميركي مجرد استمرار للسياسات السابقة، ولكنه يأتي في قالب جديد، تمامًا كما كانت تفعل كل إدارة أميركية متعاقبة.

وعلى مستوى الشكل، قد لا يؤدي ذلك إلى تغيير ملموس على أرض الواقع، وقد يقتصر على اعتراف أحادي الجانب يشبه اعتراف الدول الأخرى بفلسطين، أو قد يسمح لهذه الدولة بالحصول على عضوية كاملة في الأمم المتحدة.

من الواضح أن الموقف الأميركي سيضع نفسه في مأزق أعمق إذا استمر في تبني حلولًا غير جوهرية أو حلولًا جزئية تخدم أجندة الاحتلال، ولا تقدم سوى الفتات للشعب الفلسطيني، أو التركيز على قضايا شكلية وغير جوهرية.

إذا كان ما يهم الولايات المتحدة هو أمن الاحتلال فقط، وليس التوصل إلى حل واقعي وعادل، فلن يتحقق سوى المزيد من انعدام الأمن للاحتلال. وعلى سبيل المثال، فإن طلب بلينكن بشأن شكل الدولة الفلسطينية قد تضمن أيضًا فكرة الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح.

وفي الحقيقة، هذا النموذج فاشل ويكرر ما يحدث في الضفة الغربية، حيث يترك الشعب الفلسطيني تحت رحمة آلة القتل الإسرائيلية.

استكمال مسار التطبيع

تسعى إدارة بايدن منذ فترة إلى إنجاز التطبيع على مستويات عدة، وهذا هدف يتجاوز رغبة نتنياهو في تسجيل اسمه في التاريخ بأنه من قام بإنجاز التطبيع مع عدة دول عربية، بل هو جزء من رؤية أميركية أوسع لإعادة هندسة المنطقة، وتجميع حلفائها، للتفرغ لملفات أكثر أولوية على المستوى الدولي.

وبما أن وجود دولة فلسطينية معترف بها أصبح شرطًا أساسيًا لإنجاح عملية التطبيع هذه، والتي بات تحقيقها بدون ذلك بعد معركة "طوفان الأقصى" والعدوان المستمر على غزة أمرًا بالغ التعقيد، فمن الممكن أن يكون طلب بلينكن متماشيًا مع هذا الشرط. ولم يخفِ بلينكن ذلك بعد جولته الخامسة للشرق الأوسط في عام 2024، والتي بدأها من الرياض، واختتمها بلقاء قادة الاحتلال، مشيرًا بوضوح إلى شرط وجود دولة فلسطينية لإتمام التطبيع.

على أرض الواقع

من الواضح أن الولايات المتحدة وبريطانيا، اللتين لا تستطيعان إجبار حكومة الاحتلال اليمينية المتطرفة على إدخال كميات محددة من المساعدات الإنسانية الأساسية إلى غزة المحاصرة، ستكونان أضعف بكثير عندما يتعلق الأمر بإقامة دولة فلسطينية ذات سيادة كاملة.

وإذا كان مسار أوسلو، بكل ما انطوى عليه من تنازلات وهشاشة، قد واجه كل هذه المماطلات والتعنت والاستيطان والتهويد والإذلال، فإن كل كلمة حول شكل الدولة وحدودها وعلاقاتها ستثير أسئلة معقدة تتطلب إجابات تستغرق سنوات طويلة.

ولكن، ما هي هذه الدولة المنشودة؟ وما هو شكلها؟ وما هي حدودها الجغرافية؟ وما هو شكل علاقتها مع جيرانها الإقليميين؟ ومن سيتولى إدارتها؟.. هذه أسئلة صعبة للغاية، وقد تحتاج إلى سنوات طويلة للإجابة عليها بشكل حاسم.

على الأغلب، ما يجري ليس تغييرًا جوهريًا في السياسة الأميركية تجاه القضية الفلسطينية، بل هو مجرد تدوير للزوايا وتجميل للواقع المرير. ومع ذلك، فإن هذا الأمر مهم ويحتاج إلى البناء عليه والاستفادة منه. ويضاف إلى ذلك أن هناك إمكانية لحدوث تغيير جوهري في المعادلة السياسية بعد النجاح العسكري الذي حققته المقاومة الفلسطينية، مما قد يؤدي إلى تغيير إيجابي في البنية السياسية الفلسطينية.

إن الشعب الفلسطيني لا يريد مجرد دولة تُمنح لرئيسها الحق في الجلوس على المقعد المخصص لرؤساء الدول في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولا يريد اعترافًا دوليًا بمن يمثله بشكل شرعي ووحيد، بل يريد دولة ذات سيادة حقيقية، واستعادة حقوقه المشروعة التي سلبها الاحتلال الإسرائيلي منه. وإذا نجح الشعب الفلسطيني في التوصل إلى صيغة شاملة وموحدة، فإنها ستمهد الطريق نحو تحقيق تغييرات حقيقية في المواقف الإقليمية والدولية.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة